المادية الجدلية من هيغل إلى العولمة
المادية الجدلية، من الفلسفة إلى الاقتصاد السياسي
مادلين غراويتز
ترجمة محمد الطيب قويدري
بعض المفاهيم أزاحتها العولمة عن التداول المعرفي: المادية الجدلية والمادية التاريخية والماركسية كلها مفاهيم تقهقرت من الاستعمال: ولكن العالم يتغير اليوم . إنه يعيد النظر في نفسه، كما أنه يراجع عاداته وثوابته.
بعد طردهامن الاستعمال، ربما تعود مستقبلا هذه المفاهيم إلى صدارة الخطاب الفلسفي. ومن المحتمل أن تعود *قبل ذلك- إلى صدارة الاستخدام السياسي.
نتحدث عن مفاهيم صالت وجالت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. هل بقي ما يجعلها تصلح لإعادة الاستخدام أو التدوير؟ أم أنها ستقصى حفاظا على نظافة البيئة العلمية؟ أو بيئة المعرفة؟
هل تستطيع الماركسية الملهمة تاريخيا، سسيولوجيا، واقتصاديا أن تدعي أيضا الانتماء إلى فلسفة؟
كان أمرا عاديا أن تنقسم الآراء حول هذه النقطة، وحتى رأي ماركس نفسه كان قد عرف التنوع[1].
– فريديريك أنجلز (1820-1895). –
– فريديريك أنجلز (1820-1895). –
فيما يتعلق بفيورباخ، يقرّ إنجلز أن المسألة الأولى والأخيرة في الفلسفة هي مسألة العلاقات بين الفكر والوجود، بين العقل والطبيعة، فالمثالية فضّلت الأولى، والمادية فضَّلت الأخيرة. لكن بالنسبة له هو؛ فإن الدين والفلسفة هما من فَصَلَ الواقع عن المثال .
المادية باعترافها ” بالعالم كما هو عليه ” تلغي المشكلة الفلسفية الزائفة. والجدلية، والمنطق الشكلي بوسعهما الارتباط بصورة مباشرة بالعلوم، من دون المرور بالفلسفة.
بتبسيطه المشكلة، أعاد أنجلز حصر النظرية ضمن نظام مغلق، وكما لاحظ لينين، فإن موضوعية الجدلية عرضت ضمن أمثلة، لكن من دون البرهنة عليها. وتبقى الأسئلة الجوهرية معلقة : كيف يمكن انطلاقا من مسارات ملموسة لعلوم خاصة، أن نعمم من أجل بلوغ القوانين الكونية؟
كيف لا يتم ربط هذه الأخيرة بالمفاهيم الفلسفية: مادة، قانون، مصير.
«إذا كانت الجدلية تنبثق من دراسة الطبيعة، فكيف ولماذا تكون ثورية؟ وإذا هي جاءت من النقد الثوري والتحليل التاريخي، كيف ولماذا سنعثر عليها في الطبيعة؟[2]»
– كارل ماركس (1818-1883).
مادية ماركس التاريخية لا تحتفظ من الوقائع سوى بالجانب الاقتصادي، التاريخي، الاجتماعي، والإنساني، لكنها لا تنشغل بالمنطق الشكلي .
الجدلية لا وجود لها إلا باعتبارها معطى تجريبي . بعد ما كان قد صرح في 1844 بأن على البروليتاريا أن تنجز، فتلغي بذلك الفلسفة.
وقد انقاد ماركس في صراعه ضد اليسار الهيغلي إلى وضع العمل الثوري في موقف يعارض الفلسفة المنظور إليها على أنها إيديولوجيا.
وفقط نحو 1857 ، وأثناء العمل، اكتشف جدلية هيغل (بعد طول تحقير لها) فشرع في تناول مشكلات المعرفة. هذه الأخيرة ترتبت عن تخصيص[3] مضمون بوساطة الفكر فترتبط إذن بنظرية فلسفية هي: المادية الجدلية.
موقف ماركس من الهيجلية: المنهج الجدلي
يلخص موقف ماركس من الهيغلية في نصه الشهير الموجود في توطئة كتاب رأس المال: «منهجي الجدلي ليس مختلفا وحسب من حيث أسسه عن المنهج الهيجلي، بل هو نقيضه بالضبط .عند هيغل هو يقف على رأسه، ينبغي قلبه للعثور على النواة العقلانية تحت الغشاوة الخادعة.»
أخذ ماركس إذن عن هيغل المفهوم الجدلي للتناقض. «علاقة المتناقضات ليست علاقة سكونية، تعرّف بطريقة تجريدية ويعثر عليها في الواقع، إنها تصبح علاقةً حيّة[4].»
الوعي الذي يصدق على هيغل، وهو تتويج تبريره للفعل، ليس بالنسبة لماركس سوى نقطة البداية، ينطلق هيغل من الفكرة، بينما يتوجب الانطلاق من الوقائع.
«الفعل إنما هو قيمة، لأنه بوساطة الفعل نتوصل إلى شروط فكر تصوري واضح وواعٍ بـ ” في ذاتِهِ (en soi)، ولِذَاتِهِ (pour soi)” عند إنجاز العقل المطلق»، هذا هو موقف هيغل. أما موقف ماركس فهو أن: الفكر الواضح والحقيقي هو عبارة عن قيمة، لأنه من خلاله فقط نستطيع تحقيق شروط عمل فعال من أجل تغيير المجتمع والعالم[5].
لا تتصور المادية الجدلية أبدا العقل الكوني على أنه داخل الفرد، هي لا تفصله أبدا عن الطبيعة، وعن التطبيق، وعن الحياة. تنتقل المعرفة من الفوري إلى الملموس، من التطبيق التلقائي، إلى التطبيق المنعكس، من التجربة الحسية إلى الفعل العقلاني، وذلك عبر المجرد.
«الأفكار التي نكونها عن الأشياء ليست سوى العالم الواقع، المادي المعبر عنه والمفكر فيه داخل رأس الإنسان، بمعنى أنها مبنية انطلاقا من التطبيق والاتصال النشيط مع العالم الخارجي بوساطة مسار معقد حيث تندرج كل الثقافة [6]».
هذه الصلة بين المعيش، التطبيق والفكر هو ما يغطيه مفهوم التطبيق العملي (une praxis): ” أن نفعل، وأن نكون الفاعلين لما نفعله، وأن نكون لا شيء سوى ما نفعله.” قول جان بول سارتر.
لم يكن ذلك غريبا عن هيغل الذي كان في غائيته[7] قد استعاد قيمة التطبيق[8]. من المؤكد أن الأمر لا يتعلق لديه بعدُ بتغيير العالم من خلال الفلسفة، إنما يتعلق بفهمه وحسب. مع ذلك العالم الذي تجهد الفلسفة الهيغلية نفسها لفهمه ليس عالما يماثل ما كان الإنسان ليستقبله، بل ما يعدله حسب غاياته ضمن تطبيق عملي[9].
[1] لا نعطي هنا سوى بعض الإشارات عن الموقف الماركسي إزاء مشكلات المعرفة، سنخصص لهذا الموقف لاحقا عرضا أكثر اكتمالا. (ينظر.الفصل 3، القسم 2، الفقرة 2، رقم 128 وما بعده).
[2] (19).
[3] بالنسبة لماركس ، التملك مفهوم فلسفي: النشاط الذي يسيطر على معطى ملموس، أو مادة. ينتج أعمالا ويعرفها من خلال التعرف على نفسه فيها.
[4] (17) ص. 100.
[5] (9) ص. 18.
[6] (9) ص. 32.
[7] غائية: دراسة الغايات.[تيليولوجي(غائية): نظرية تقول إن كل شيء في الطبيعة موجه لغاية معينة]
[8] يطرح لينين في الفصول الأخيرة من المنطق إرادة لإعادة إدخال التطبيق إلى النظرية. ” ماركس يرتبط مباشرة بهيغل، بإدخاله معيار التطبيق في نظرية المعرفة” لينين الدفاتر الفلسفية.
[9] ينظر(9 ب. 4)ص. 25.